بسم الله الرحمن الرحيم الشهيد سيد قطب يكتب الحياة في ظلال القرآن

بسم الله الرحمن الرحيم

الشهيد سيد قطب يكتب

الحياة في ظلال القرآن

إن الحياة في ظلال القرآن نعمة. نعمة لا يعرفها إلا من ذاقها نعمة ترفع العمر وتباركه وتزكيه … والحمد لله . لقد منّ عليّ بالحياة في ظلال القرآن فترة من الزمان ذقت فيها من نعمته ما لم أذق قط في حياتي . ذقت فيها هذه النعمة التي ترفع العمر فتباركه وتزكيه لقد عشت اسمع الله سبحانه . يتحدّث إلي بهذا القرآن أنا العبد القليل الصغير … أي تكريم للإنسان هذا التكريم العلوي الجليل .. أي رفعة للعمر يرفعها هذا التنزيل.. أي مقام جليل يتفضل به على الإنسان خالقه الكريم ؟

وعشت في ظلال القرآن انظر من علوّ إلى الجاهلية التي تموج في الأرض والى اهتمامات أهلها الصغيرة الهزيلة … انظر إلى تعاجب أهل هذه الجاهلية بما لديهم من معرفة الأطفال وتصورات الأطفال واهتمامات الأطفال… كما ينظر الكبير إلى عبث الأطفال ومحاولات الأطفال ولثقة الأطفال واعجب.. ما بال هذا الناس ؟؟ ما بالهم يرتكسون في الحمأة الوبيئية ولا يسمعون النداء العلوي الجليل .. النداء العلوي الذي يرفع العمر ويزكيه.

غاية الوجود الإنساني وحركة الإنسان

في ظلال القرآن عشت أتملى ذلك التصور الكامل الشامل الرفيع النظيف للوجود… لغاية الوجود كله وغاية الوجود الإنساني وأقيس إليه تصورات الجاهلية التي تعيش فيها البشرية في شرق وغرب وفي شمال وجنوب …

وأسأل كيف تعيش البشرية في المستنقع الآسن وفي الدرك الهابط وفي الظلام البهيم وعندها ذلك المرتفع الزكي وذلك المرتقى العالي وذلك النور الوضيء ؟

وعشت في ظلال القرآن أحس التناسق الجميل بين حركة الإنسان كما يريدها الله وحركة هذا الكون كما أبدعه الله ثم انظر فأرى التخبط الذي تعانيه البشرية في انحرافها عن السنن الكونية والتصادم بين التعاليم الفاسدة الشريرة التي تملى عينا وبين فطرتنا التي فطرنا الله عليها وأقول في نفسي أي شيطان لئيم هذا الذي يقود خطاها إلى هذا الجحيم .. يا حسرة على العباد

وعشت في ظلال القرآن أرى الوجود اكبر بكثير من ظاهره المشهود. اكبر في حقيقته واكبر في تعدد جوانبه . أنه عالم الغيب والشهادة لا عالم الشهادة وحده. وأنه الدنيا والآخرة لا هذه الدنيا وحدها والنشأة الإنسانية ممتدة في شعاب هذا المدى المتطاول والموت ليس نهاية الرحلة وإنما هو مرحلة في الطريق وما يناله الإنسان من شيء في هذه الأرض ليس نصيبه كله.

إنما هو قسط من ذلك النصيب وما يفوته هنا من الجزاء لا يفوته هناك فلا ظلم ولا نجس ولا ضياع . على أن المرحلة التي يقطعها على ظهر هذا الكوكب إنما هي رحلة حيّ مأنوس وعالم صديق ودود .

كون ذي روح تتلقى وتستجيب وتتجه إلى الخالق الواحد الذي تتجه إليه روح المؤمن في خشوع ( ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال ) ..( تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن و إن من شيء إلا يسبح بحمده)

 أي راحة وأي سعة وأي أنس وأي ثقة يفيضها هذا التصور الشامل الكامل الفسيح الصحيح ؟؟

 

المؤمن .. من ذلك الموكب الكريم

في ظلال القرآن عشت أرى الإنسان أكرم بكثير من كل تقدير عرفته البشرية من قبل للإنسان ومن بعد. إنه إنسان بنفخة من روح الله (فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين) وهو بهذه النفخة مستخلف في الأرض (وسخر لكم ما في الأرض جميعا)

ولأن الإنسان بهذا القدر من الكرامة والعلو جعل الله الآصرة التي يتجمع عليها البشر هي الآصرة المستمدة من النفخة الإلهية الكريمة.. جعلها آصرة العقيدة في الله. فعقيدة المؤمن هي وطنه وهي قومه وهي أهله ومن ثم يتجمع البشر عليها وحدها لا على أمثال ما يتجمع عليه البهائم من كلأ ومرعى وقطيع وسياج..

والمؤمن ذو نسب عريق ضارب في شعاب الزمان انه واحد من ذلك الموكب الكريم الذي يقود خطاه ذلك الرهط الكريم ׃ نوح وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام ( وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون)

 هذا الموكب الكريم الممتد في شعاب الزمان من قديم يواجه كما يتجلى في ظلال القرآن مواقف متشابهة وأزمات متشابهة وتجارب متشابهة على تطاول العصور وكرّ الدهور وتغيّر الزمان وتعدد الأقوام يواجه الضلال والعمى والطغيان والهوى والاضطهاد والبغي والتهديد والتشريد

ولكنه يمضي في طريقه ثابت الخطو مطمئن الضمير واثقا من نصر الله متعلقا بالرجاء فيه متوقعا في كل لحظة وعد الله الصادق الأكيد (وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنّكم من لرضنا أو لتعودنّ في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكنّ الظالمين ولنسكنّنكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيدي)

 موقف واحد وتجربة واحدة وتهديد واحد ويقين واحد ووعد واحد للموكب الكريم… وعافية واحدة ينتظرها المؤمنون في نهاية المطاف وهم يتلقون الاضطهاد والتهديد والوعيد.

 

استشعار الهدوء النفسي .. الاطمئنان إلى رحمة الله

في ظلال القرآن تعلمت أنه لا مكان في هذا الوجود للمصادفة العمياء ولا للفلتة العارضة (إنا كل شيء خلقناه بقدر) .. (وخلق كل شيء فقدره تقديرا) وكل أمر بحكمة ولكن حكمة الغيب العميقة قد لا تنكشف للنظرة الإنسانية القصيرة (فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا)... ( وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وانتم لا تعلمون) .

والأسباب التي تعارف عليها الناس قد تتبعها آثارها وقد لا تتبعها والمقدمات التي يراها الناس حتمية قد تعقبها نتائجها وقد لا تعقبها . ذلك انه ليست الأسباب والمقدمات هي التي تنشئ الآثار والنتائج وإنما هي الإرادة الطليقة التي تنشئ لاثار والنتائج كما تنتج الأسباب والمقدمات سواء (لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا) .. (وما تشاؤون إلا أن يشاء الله).

والمؤمن يأخذ بالأسباب لأنه مأمور بالأخذ بها والله هو الذي يقدر آثارها ونتائجها والاطمئنان إلى رحمة الله وعدله وحكمته وعلمه هو وحده الملاذ الامين والنجوة من الهواجس والوساوس (الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم.

 ومن ثم عشت في ظلال القرآن هادئ النفس مطمئن السريرة قرير الضمير. عشت أرى يد الله في كل حادث وفي كل أمر .

عشت في كنف الله وفي رعايته. عشت استشعر إيجابية صفاته تعالى وفاعليتها (أم من يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء) ...(وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير)(والله غالب على أمره ولكن اكثر الناس لا يعلمون)...( واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه) ... (فعّال لما يريد)

إن الوجود ليس متروكا لقوانين آلية صماء عمياء فهناك دائما وراء السنن الإرادة المدبرة والمشيئة المطلقة والله يخلق ما يشاء ويختار...

كذلك تعلمت أن يد الله تعمل ولكنها تعمل بطريقتها الخاصة وانه ليس لنا أن نستعجلها ولا أن نقترح على الله شيئا فالمنهج الإلهي موضوع ليعمل في كل بيئة وفي كل مرحلة من مراحل النشأة الإنسانية وفي كل حالة من حالات النفس البشرية الواحدة وهو موضوع لهذا الإنسان الذي يعيش في هذه الأرض أخذ في الاعتبار فطرة هذا الإنسان وطاقاته واستعداداته وقوته وضعفه وحالاته المتغيرة التي تعتريه .

إن ظنّه لا يسوء بهذا الكائن فيحتقر دوره في الأرض أو يهدر قيمته في صورة من صور حياته سواء وهو فرد أو وهو عضو في جماعة.

كذلك هو لا يهيم مع الخيال فيرفع هذا الكائن فوق قدرته وفوق طاقته وفوق مهمته التي أنشأه الله لها يوم أنشأه ولا يفترض في كلتا الحالتين أن مقومات فطرته سطحية تنشأ بقانون أو تكشط بجرّة قلم.

اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا ونور صدورنا وذهاب همومنا وغمومنا.. ذكرنا منه ما نُسينا، علمنا منه ما جهلنا

يا رب ارزقنا قراءة القرآن وتلاوه القرآن آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يرضيك عنا، واجعلنا ممن يقيم حروفه وحدوده، نعوذ بك أن نكون ممن يقيمون حروفه ويضيعون حدوده.

يا رب اجعل لنا القرآن في الدنيا رفيقا، يا رب بعد رمضان يبقى القرآن لنا في الدنيا رفيقا، يا رب لا نهجر القرآن بعد رمضان. اجعل القرآن لنا في الدنيا رفيقا وفي القبر مؤنسا، آنس وحشتنا في القبور، نوِّر قبورنا بالقرآن، اجعل قرآن رمضان نورا في قبورنا، يا رب اجعل القرآن لنا في الدنيا رفيقا، وفي القبر مؤنسا، وعلى الصراط نورا، ومن النار سترا وحجابا، ويوم القيامة شفيعا، وإلى الجنة رفيقا وإماما، آنس وحشتنا بالقرآن. اللهم يا رب اجعلنا ممن يقال له يوم القيامة اقرأ واترقِ ورتل فإن منزلتك عند آخر آية تقرأها.

آمين آمين آمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد

 

بسم الله الرحمن الرحيم

في قافلة الشهداء

سيد قطب.. محمد هواش … عبد الفتاح اسماعيل

يأتي يوم 29 آب- أغسطس بذكرياته الأليمة مع رفع الراية السوداء على سجن الإستئناف وسط العاصمة المصرية القاهرة كتقليد قديم يصاحب إعدام إنسان من المفترض أن يكون قد خالف القانون بانتهاك حرمة الدماء أو خيانة بلده وبيع أسرارها لعدوها، أو قام بعمل تخريبي يمس المال والممتلكات…

ومن المفترض ان تأتي الإشارة السوداء بعد تحقيق نزيه ومحاكمة عادلة القضاء فيها مستقل، وسماع لشهود بدون إكراه بعد أدائهم القسم بقول الحق، وكفالة دفاع حر يمثل كفة العدالة الثانية في إجراءات تقاضي متعارف عليها يخضع لنزاهتها الجميع … وعندها يأتي الحكم البات بما يستقر عليه ضمير القاضي بعد استيفاء كافة اجراءات محاكمة عادلة.

في هذا اليوم وفي عام 1966 لم يأت رفع الراية السوداء لحظة إعدام الشهداء سيد قطب ويوسف هواش وعبد الفتاح اسماعيل احتراما لجلال مقتل ثلاث من الدعاة إلى الله بل جاء تكريسا لوفاة منظومة العدالة التي سقطت في عهد حكم العسكر بمحاكمهم العسكرية، سقطت معها كل معاني الشهامة والإنسانية والمثل الأخلاقية التي تردت في نفوس فراعنة مصر في عهدها وفي نفوس اشياعهم وجنودهم .. والكثيرين … والكثيرين من حراس الديانات السماوية، وممن ينادون بشعارات ليبرالية وعلمانية الحضارات الجديدة في الداخل والخارج، وهم شهود على إجراءات محكمة كل قضاتها عسكريون لا يملكون من أمرهم شيئا يفعلون ما يأمرم به  كبيرهم… ويقرأون الاحكامم كما كتبوها لهم دون أن تشغلهم اتباع إجراءات التقاضي العادية… فلم يأخذ المتهمون حقهم في الرد على ما وجهوه إليهم من إدعاءات… ولم يقدم الإدعاء في جلسات المحكمة التي كانت تذاع على الهواء ما يثبت أن الدعاة خلف القضبان وعلى رأسهم الشهداء الثلاثة السيد قطب… محمد يوسف هواش… عبد الفتاح إسماعيل قد سفكوا دما حراما أو خانوا بلدهم أو باعوا اسرارها للعدو أو قاموا بعمل تخريبي يمس الممال والممتلكات.

وبعد أن مر على الحدث ما يزيد على نصف قرن، وذهب كل الفاعلين فيها تقريبا من قضاة عسكريين ورئيسهم إلى قبورهم، وارتقت أرواح الشهداء الثلاثة إلى بارئها، يعود الحدث ليتكرر مرة أخرى في العهد العسكري الجديد 2013 مع تهليل وتصفيق ورقص من نفس القوى التي تدعي الليبرالية والعلمانية وغيرها والتي سيق وأن وقفت في صف طغاة 1954، وعلى أسوأ مما كان في ذلك الزمان الغابر، ليبرز سؤال غريب يقول أية انتكاسه أو ردة عن الإخلاق هي الأسوأ … أهي جاهلية قريش قبل الإسلام أم ردة البشرية إلى أسوأ الدركات في ظل حكم عسكر مصر.

يحكي التاريخ أن ابا سفيان كبير كفار قريش قبل إسلامه وقف أمام هرقل عظيم الروم يجاوب على أسئلته عندما أراد ان يتعرف عن ماهية الرسول صلى الله عليه وسلم وماهية رسالته، فالتزم أبو سفيان الصدق كسجية من سجايا قومه لا ينكص عنها إلا لئيم، فيأبي رغم خصومته للرسول وللرسالة وقتها أن يقول الكذب، فيأخذ عليه العرب ذلك …

ففي حوار طويل سأله فيه هرقل … ماذا يأمركم؟

فأجاب أبو سفيان ( يقول اعبدوا الله وحده ولا تشركوه به شيئا، واتركوا ما يقول آباءكم ،،، ثم يضيف .. ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف …

وفي أجواء ذكرى هذه الكوكية من الشهداء اللذين لا نبكي فيها على ارتقائهم، فنحن لسنا في مجال لطيمة، نبكي فيها على مارزقهم الله من الشهادة… ولكننا في مجال تذكرة ووقفة مع أفراح الروح التي قال فيها الشهيد ” إن كلماتنا تظل عرائس من الشمع حتى إذا متنا في سبيلها دبت فيها الروح وكتبت لها الحباة ” ….

(( 1 ))

الشهيد سيد قطب

ستون عاما قضاها في هذه الدنيا منذ أن صرخ صرخته الأولى عندما خرج من بطن أمه وهم يلفون جسده بلفافات بسيطة هي أول غطاء له في حياته .. إلى أن نطق بالشهادتين والجلادون يلفون حول رقبته حبل المشنقة ليلقى ربه شهيدا – إن شاء الله – وليغادر هذه الدنيا كما جاءها لا يحمل من متاعها – على جسده المنهك من المرض والسجن والتعذيب وهو في آخر لحظات حياته -، سوى ملابس الإعدام الخشنة البسيطة، حياة غريبة نادرة، غرابة مسيرة صاحبها وندرته في هذه الدنيا، فقد عاش منها خمسا وأربعين عاما تقريبا، أصبح بعدها ناقدا أدبيا متميزا وكاتبا لا يختلف حول قيمته اثنان، لا مواجهة له فيها مع أحد خارج نفسه مواجهة تؤدي به إلى حبل المشنقة، إلا ما اعتاده الناس من خلافات في الرأي تعنف أحيانا وتشتد، وتأتي ناعمة هادئة أحيانا أخرى … حتى إذا بلغ أشده وتجاوز هذا العمر، واكتمل عقله وانصقلت تجربته .. ثم ومع بدايات تمكن المرض من جسده، بدأ ميلاد جديد مع بداية انتمائه إلى جماعة الإخوان المسلمين عام (1951م – 1371هـ) .. يهب لله فيها ما بقى من عمره خالصا لتكون “خمسة عشر عاما” (1951-1966) .. قضى منها أحد عشر عاما في السجن، وبقيت أربعة فقط منها عاشها خارج الأسوار .. ليودع هذه الدنيا.

وقد عاداه كثيرون، وتحالف في سبيل هذا العداء الشرق والغرب والأنظمة التي أعرضت عن شرع الله، ومعها القوى السياسية التي هزّها أن تتعرى أفكارها ومناهجها بفعل كلماته ومنهجه وسلوكه واستعلائه بإيمانه على كل ما تيقن أنه باطل، وعاداه أيضا أو هاجم فكره، بعض أهل الفكر والعلم ممن اندفع في هذا العداء أو الخصومه – بفعل الموجة العاتية التي هبت على الرجل وفكره – ودون تيقن وتمحيص .. لتصعد روحه إلى خالقها – عز وجل – وهو في زنزانة رطبة ضيقة ظن الفاعلون الآثمون وقتها أنهم قد أنهوا حياة “سيد قطب” نيابة عن كل باطل في الدنيا، وما قدروا أن لحظة إعدامه بين جدران أربعة صلدة صماء معتمة كانت إيذانا من الله – عز وجل – بميلاد حياة جديدة للشهيد، وانبعاث طاقة ربانية هائلة لفكره وكتبه وسيرة حياته ما قدروها حق قدرها، غطت الأرض كلها من مشرقها إلى مغربها وبلغات عديدة دفعت البشرية كلها إلى الاطلاع عليها والتزود منها، ليبقى “سيد قطب إبراهيم” حيا نافعا فاعلا بين الناس إلى ما شاء الله، وتبقى جماعته التي أعطاها فكره وعمله وحياته شاهدة على سمو العطاء، ليتذكر الناس – من يريد منهم أن يتذكر – أن الله بالغ أمره .. ولتصدق كلماته التي قالها في حياته دون أن يدري ما هو قدر الله فيه: (إن كلماتنا عرائس من الشمع حتى إذا متنا في سبيلها دبت فيها الروح، وكتبت لها الحياة).

نحن في جماعة الإخوان المسلمين أصحاب سيد قطب وإخوانه وتلاميذه لا نرى فيه قداسة ولا عصمة تماما كما لم نرهما في إمامه حسن البنا، ولا في الذين جاؤوا من بعده، وإن كنا نسأل الله سبحانه وتعالى من فضله ورحمته أن يرزقهم أجر الشهداء ويلحقنا بهم في الصالحين، ونشهد شهادة نلقى بها الله – عز وجل – بما علمناه عنهم، أنهم قد بلَّغوا وأدوا وجاهدوا وجادوا بدنياهم في سبيل دعوتهم وفي سبيل ما اعتقدوا أنه الحق، ولا نملك ولا يملك بشر أن يوفى عباد الله هؤلاء أجرهم الذي نرجوه لهم خالصا من الله عز وجل.

وحين نكتب عنهم فإننا نكتب للأجيال التي تأتي من بعدنا ولم تعاصرهم، لنعيد تذكير الناس ببشر مثلنا ليسوا بأنبياء ولا رسل ولكنهم جاهدوا وأدوا وكانوا أوفياء لدينهم، ثم مضوا إلى آخرتهم التي قدرها الله لهم كما سيمضي كل بني آدم (إنك ميت وإنهم ميتون) (الزمر: 30)، ولتبقى المقارنة للناس قائمة، بين من أصبحوا تحت التراب فاعلين، ومن هم فوقه غافلين، لعلها تكون دافعا وحافزا لمن له قلب وبصيرة ليختار الطريق، حرصا على ما بعد الحياة الفانية حيث الخلود فلا موت، والجنة التي لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون، وأكبر من كل ذلك وأسمى وأعز .. رضوان الله ذو الجلال والإكرام فلا سخط بعدها أبدا.

غرابة حياة شهيدنا سيد قطب أنه وُلد في بيئة متدينة كما وُلد الكثير من الناس، ونشأ قريبا من القرآن الكريم كغيره من جيله حيث كان اهتمام الآباء والأمهات في هذه الفترة متميزا حريصا على أن يحفظ الصبيان والفتيات ما استطاعوا من سور القرآن الكريم، ثم سارت حياته أيضا كغيره من طالبي العلم سعيا إلى طلب الرزق الحلال وإلى الإسهام الجاد في الحياة، ولكنه لم يُدر ظهره لأصوله الأولى وظل قريبا منها مستمسكا بها، حتى إذا رَشَدَ واستوى عوده وتميز في علمه وفكره، رآه الناس ورأته (العيون الراصدة) طرازا جديدا من الإسلاميين.

وظنت هذه العيون أنه وهو خريج كلية دار العلوم أقرب إلى (الليبرالية) بمفهومهم منه إلى الإسلام التقليدي الذي يحمله خريجو جامعة الأزهر الشريف كما يظنون، فحسبوه كبعض من سبقه ممن نشأ نشأته وتبدلت داخل نفسه أولوياته ثم أصبح مع بعض التأثير وزيادة الانبهار بالعالم الجديد شيئا مختلفا عن بداياته .. وأملوا أن يكون مع بعض الجهد أقرب إلى المعسكر الآخر منه إلى بلده وقومه وقيمه .. وهكذا جاء الاهتمام بشهيدنا عليه رحمة الله، ووقع عليه اختيار (العيون الراصدة) في هذا الوقت ليكون ابتعاثه إلى الدنيا الجديدة التي خرجت من الحرب العالمية الثانية بهالة من الأساطير والبريق قهرت مئات الملايين من البشر لتصبح (أمريكا) شعلة الهداية والنور والحضارة والجنة الموعودة على الأرض، ليسافر إليها سيد قطب وليحظى فيها بعناية خاصة على ظن منهم أن يعود بإسلام جديد، قال عنه بعد ذلك: (إسلام أمريكاني).

ويشاء الله – عز وجل – أن يُريه في هذه الرحلة بنور البصيرة وقلب المؤمن الذي غمره فيض الخير في القرآن ولم يجف، ما لم يره غيره، فيدرك سبيل كيد الشيطان وسبل تزيينه للباطل، ليعود إلى بلده نظيفا طاهرا لم يتدنس ولم يأثم فتأخذه الخطيئة بعيدا عن الطريق الحق كما عاد غيره، وليضع علمه وخبرته وتجاربه وقد تجاوز الأربعين من عمره وبلغ رشده في خدمة دينه، فلا يستطيع أحد أن يتهمه في عقله وقد كان مشهودا له من الجميع بالرجحان، ولا في علمه وقد ابتعثوه لتيمزه عن غيره.

وتأتي قمة الغرابة في أن (العيون الراصدة) أرادتها لغير الله فأبى سبحانه إلا أن تكون لله ولدينه بعد أن اكتسب خبرة جديدة وعلما جديدا ورأى بنفسه تهافت الأسطورة وزيف البريق، وكأننا بهؤلاء يستعيدون ما قاله قوم نبي الله صالح عليه السلام له عندما بعثه الله إلى قومه فجاءهم بالحق بديلا عن باطلهم (يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب) (هود: 62).

بدأ شهيدنا حياته الجديدة التي شاء الله له أن يبدأها مع نزيف الدم الذي خرج من جسد الإمام حسن البنا فلم يغب عنه أنها حياة جهاد مشقة ودماء .. وغواية، وليست غواية شهوات حسية أو مادية يخشى على نفسه منها وقد بلغ الأربعين راشدا سويا بفضل الله، ولا غواية سلطة أو نفوذ وقد عرضوها عليه وساوموه عليها .. إما القبول .. وإما السجن أو التشريد .. ولكنها بالنسبة له غواية لا يتعرض لها إلا ما ندر من الناس.

*يتبع إن شاء الله تعالى*

Leave a Comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Scroll to Top