في العراق، مشروع أمريكا الأول في الشرق الأوسط، تزداد التساؤلات حول كيف سيكون وجه هذا البلد في ظل قدوم ترامب إلى سدة رئاسة قطب العالم الأوحد.
تشير العديد من الدراسات والتصريحات إلى أن زمن دونالد ترامب (إن قدر له الاستمرار) سيكون زمن التصادم مع إيران، ومع سائر القوى التي تحمل شعار الإسلام، الرئيس الشعبوي القادم عبر أصوات الرجل الريفي الأبيض، يجد في “الإسلام السياسي” عدوه الأول بعد أن كان أوباما يحاول أن يلفت الأنظار نحو روسيا في رئاسته، ولا يزال كذلك حتى آخر أيامه فيها.
ويبدو أن النظام الإيراني سيكون له حصة الأسد من العداوة مع ترامب (بالإضافة إلى عدد من الحركات الإسلامية الأخرى من بينها الإخوان المسلمون)، وهو ما يعززه تقرير أولبرايت-هادلي، الذي نص صراحة وجوب “ردع التدخل الإيراني في العالم العربي، حتى في الوقت الذي يتم فيه إشراك طهران بشأن القضايا ذات الاهتمام المشترك”.
الفكرة من هذه السطور أمامك عزيزي القارئ هي المزاوجة بين مخرجات شخصية ترامب وظروفه وبين مخرجات أولبرايت-هادلي الذي يمثل وإن بشكل غير رسمي الإجماع السياسي بين الجمهوريين والديمقراطيين في الولايات المتحدة، مزاوجة نريد منها أن نعرف كيف سيتصرف ترامب في العراق.
ترامب الذي لا يملك خطة واضحة لإنقاذ الاقتصاد الأمريكي، سيلجأ بشكل أساسي إلى تصدير مشكلته عبر عمل عسكري خارجي، قد يكون في كوريا الشمالية أو الشرق الأوسط، كما أن عداوته مع توجهات الإسلام السياسي ستجعله في موقف التصادم مع إيران ومع الحركات الإسلامية في المنطقة (سنة وشيعة). بينما سيبدو الاتجاه أكثر ملائمة للتعاون مع ثلاثة قوى إقليمية، وهي الخليج وعلى رأسه السعودية، وتركيا، وإسرائيل، وقد نص تقرير أولبرايت هادلي حرفيا على ضرورة أن تبدأ واشنطن “حوارا إستراتيجيا أكثر قوة بين أنقرة وواشنطن؛ ويعتبر هذا الأمر بالغ الأهمية”، بينما تأتي كل من إسرائيل والسعودية على رأس الدول المستعدة للتصادم مع “الإسلام السياسي” في نسخه العربية والإيرانية، بينما يأتي الإسلام السياسي في نسخته التركية وتجربة النهضة في تونس، في تصنيف آخر أمريكيا، طالما أنه يقر بالعلمانية كمبدأ أساسي لنظام الدول.
أتى الكلام عن العراق في تقرير أولبرايت هادلي عاما ومبهما (وهي سمة أمريكا في التعاطي مع العراق على عكس تعاطيها مع سوريا)، يوصي بما توصي به أغلب الدراسات الغربية من ضرورة تأمين المناخ المناسب لمنع ظهور داعش جديدة، لكن جملة غير عادية مرت فيه، تجعلنا نفتح أعيننا كثيرا عليها “وسوف يتطلب أيضا، كما في حالة سوريا، نموذجا جديدا للحكم، يوفر استقلالا متزايدا ومواردا للمحافظات والحكومات المحلية”. الجمع بين كل من العراق وسوريا في ضرورة إيجاد نموذج جديد للحكم (وإن كان كلاما غامضا) يفتح آفاقا واسعة، ففي سوريا تتجه السياسة الأمريكية إلى “تغيير رأس النظام، ومنع الاستئثار بالحكم من قبل طرف واحد، وإعادة دمج الطوائف المغيبة عن الحكم في النظام” وكذلك سحب إيران منها عبر الدفع بروسيا إلى قلب المعركة وتسليمها زمام قرار النظام، إضافة للتركيز البالغ على محاربة الجهاديين وتجفيف حواضنهم.
كل هذا يسوقنا إلى أن عهد المواجهة بين إيران والولايات المتحدة سيعود، والتجربة السابقة لهذه المواجهة بين عامي 2006 و2008 لها ذكريات أليمة جدا في وجدان العراقيين، فلإيران في العراق موطئ قدم واسع، بما تتمتع به من ثقل الجغرافيا على حدود العراق الشرقية إضافة إلى التأثير الديني، على عكس سوريا التي لا تملك فيها إيران حدودا ولا امتدادا دينيا، بينما لأمريكا مفاتيح الأمور والقدرة على رسم حدود الصراعات في البلد، وليست عمليات حسم معارك الفلوجة وتكريت وأخيرا معركة الموصل المستمرة، سوى مؤشرات على تملكه أمريكا في العراق، التي يبدو وإن امتنعت وقتا من الزمن فإنها تملك القدرة على الفعل.
في عام 2006 نص تقرير بيكر-هاملتون على إدبار واشنطن من العراق، وفتح الباب على طهران للإقبال فيه، لكن تقرير أولبرايت-هادلي ينص على ضرورة إدبار طهران وإقبال واشنطن، والسيناريو الأكثر منطقية لأمريكا في ذلك سيكون عبر إجبار أصدقاء إيران في العراق على التراجع الجغرافي وربما السياسي، حتى تصبح مكاسبهم أقل من حاجاتهم، وتبرز حالة “فائض القوة الذي لا يجد متنفسا له” حتى إذا احتدم الصراع وعجزت إيران عن علاجه تقدمت أمريكا وساومتها على ما تريد.
من هنا يمكن فهم لماذا يحاول الإيرانيون وحلفاءهم المحليون الحيلولة دون تمدد الفدرالية إلى خارج إقليم كوردستان، وما وقع به السنة بتأثير من الموروث البعثي والعروبي في 2003 من رفض للفدرالية، يقع به الشيعة الآن تحت تأثير الماكينات الدعائية، بينما الإصرار الأمريكي على دعم الفدرالية كبير، وهو الذي رسم حدود تقدم الحشد في جبهات المعارك.
على الجهة المقابلة، تستمر حالة ضياع السنة، بعد أن أحرقت أرضهم الخيارات الجهادية (داعش والقاعدة..) وفشلت الخيارات السياسية التي أخذت طابعا أيديولوجيا إسلاميا، بينما لم يعد للبعث قدرة على العودة القوية، فهو إن أصبح ممثلا للسنة لم يعد بعثيا قوميا بل أصبح طائفيا.
ولمنع أن تتحول المواجهة الإيرانية الأمريكية في العراق، إلى نار تأكل العراقيين ولا يتمتعون بدفئها، يجدر بالعراقيين اتخاذ عدة خطوات تستبق الكارثة، وأبرزها.
- دمج عناصر الحشد الشعبي بالجيش والقوى الأمنية بطريقة أكثر مؤسساتية تحرر الأفراد في الحشد من سلطة الأحزاب عليهم وتجعلهم خاضعين لسلطة المؤسسة الرسمية وحدها، وليس كما حصل معقانون الحشد الأخير، الذي حافظ على كيانات الحشد الأساسية، واكتفى فقط بتشريعها وتمويلها، دون اتخاذ الإجراءات التنظيمية اللازمة لضمان ولاء عناصرها.
- ضرورة تدخل كل من تركيا والسعودية، لاحتواء الفراغ السياسي والدعائي في الشارع السني، نحو الحث باتجاه العملية السياسية، وإقناع الشارع بنهائية العراق كدولة، ولجم الخطاب الديني الرافض لمبدأ التنوع الفقهي والثقافي داخل الإسلام، تدخل مطلوب لفصل الأزمة التي يتعرض لها السنة عن فكرة الصراع الطائفي العابر للحدود.
- العمل الجدي على إنشاء قوى سياسية عابرة للطوائف والعرقيات، تجعل من المصلحة السياسية العراقية جامعا لها، لاستبدال نفوذ الفتاوى الدينية وسطوة رجال الدين والوعاظ بنفوذ مشاريع سياسية، تضمن استمرار العراق كوطن، وتعلي الهوية الوطنية على الهوية الطائفية.