أسباب التقدم.. رؤية شرعية د. صلاح فضل

أسباب التقدم.

د. صلاح فضل

مجلة الوعي الإسلامي :: ملف العدد/ 

26-620.jpg

من المسلم به في أدبيات العلوم الاجتماعية، أنه لا توجد مجتمعات أو دول تتصف بأنها متقدمة أو أنها متخلفة بذاتها، ولكن كلا من التقدم والتخلف إنما هو حصيلة لجهود مجموعة من البشر، أفرادا أو جماعات، يعيشون على بقعة من بقاع الأرض استوطنوها لتكون لهم وطنا، فما يتمتعون به من صفات وما يبذلونه من جهود هو الذي يحدد مكانتهم من التقدم أو التخلف قربا أو بعدا على مدرج أحد طرفيه التقدم والآخر التخلف. وهذه الجهود، المرتجى بذلها لتحقيق التقدم، تحتاج إلى بيئة حاضنة تتوافر فيها مقومات وعوامل التقدم والتطور، تنظر وتؤطر للقوانين والقواعد الحاكمة لتطور المجتمعات وتقدمها.

التقدم والتخلف سنه كونية

ومن وجهة نظر شرعية فإن التقدم والتخلف سنة من سنن الله في كونه فاز بها من أخذ بأسبابها، ووقع في براثن التخلف من تخلف عن الأخذ بها، وقد جاء الإسلام بمجموعة من الأسباب التي كانت بمنزلة العمد والأركان الأساسية التي قامت عليها حضارته ودوله العظام، التي كانت بدايتها بالمدينة المنورة على يد رسول الله  ” صلى الله عليه وسلم” ، ومرورا بعصر الخلافة الراشدة وما تلاه من عصور إسلامية زاهرة بدأت بدولة الخلافة الأموية، وحتى دولة الخلافة العثمانية.

أسباب التقدم

الإسلام الدين الحق، قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (آل عمران:19)، وما عداه من ملل كلها باطلة لا يقبلها الله، قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (آل عمران:85).

وإذا كان الإسلام هو الدين الحق، فأمة الإسلام هي أمة السيادة المنوط بها قيادة العالم وإخراجه من ظلمات الكفر إلى أنوار الإيمان، ولن تتحقق لها السيادة إلا عندما تأخذ بأسباب التقدم والنهوض التي هي من صميم العقيدة الإسلامية، ومن أهم هذه الأسباب نذكر:

أولا – عقيدة التوحيد:

لكل مجتمع من المجتمعات أيديولوجية تحكمه وتوجهه وتضبط سلوك أفراده وجماعاته، وتحدد توجهاتهم ومعتقداتهم الفكرية، ومواقفهم تجاه العالم والمجتمع والإنسان ومشكلاته، فعلى سبيل المثال ينسب مجتمع ما إلى الأيديولوجية التي تحكمه، فيقال مجتمع اشتراكي، مجتمع رأسمالي.

فالايديولوجيا إذن هي مجموعة الآراء والأفكار والعقائد والفلسفات التي يؤمن بها شعب أو أمة أو حزب أو جماعة.

والأيديولوجيا كعلم فلسفي وضعي تعبر عن مصالح الجماعة الحاكمة أو التي تمتلك القوة، وهي متغيرة غير ثابتة، وتتناقض داخليا مع نفسها وتتصارع خارجيا مع غيرها من الأيديولوجيات المنافسة لها، مما يترتب عليه عدم استقرار المجتمعات وحدوث الصراع بين أفرادها وجماعاتها، واستعباد البشر للبشر.

وهنا يعن لنا سؤال عن أيديولوجية الدول والمجتمعات الإسلامية؟

وللإجابة على هذا السؤال نقول إن هناك دولا ومجتمعات إسلامية اتخذت من الفلسفات الوضعية أيديولوجية حاكمة وضابطة لها، وجاءت نظمها وقوانينها معبرة عن كنه هذه الأيديولوجية.

وهذا كله مخالف لما جاء به الإسلام، الذي ارتضاه لنا ربنا سبحانه وتعالى دينا، ليخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، فالمجتمع الإسلامي تحكمه عقيدة التوحيد الذي يعني: «إفراد الله -سبحانه- بما يختص به من الربوبية والألوهية والأسماء والصفات» (1)، ويمثل الأيديولوجية الضابطة والموجهة له في كل شؤونه السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

كما تمثل عقيدة التوحيد الرابطة بين أفراده وجماعاته، فتختفي فيه كل علاقة أو تعامل محرم ينافي عقيدة التوحيد، وهذا من شأنه أن يعلي من قيمة الإنسان الذي يتحرر من كل قيد إلا قيد العبودية لله وحده، فيطلق العنان لقدراته وإبداعاته في جميع المجالات مستكشفا الكون من حوله ومستخرجا لخباياه وكنوزه التي أودعها الله إياه، وهذه هي ركيزة التقدم ودعامته الأولى، فيحقق التقدم في كل مجالات الحياة نظريا وتطبيقيا، مما يعود على الأمة بالنفع والخير، بل على البشرية جمعاء، وما زالت صفحات التاريخ تحفظ لنا ما قدمه المسلمون من منجزات علمية وحضارية في كل المجالات.

من جهة أخرى، إذا كانت الدول والمجتمعات اتخذت من الأيديولوجية التي تعتنقها شعارا لها لتعبر باختصار عن توجهاتها، فإن المسلمين الأول وعوا حقيقة التوحيد، ودوره في تحقيق تقدم الأمة ونهضتها، فاتخذوا من عبارة التوحيد «لا إله إلا الله محمد رسول الله» شعارا لهم في شتى مجالات حياتهم.

ثانيا – العدل:

يتبوأ العدل في الإسلام مكانة سامية، فهو من أوجب الواجبات في التشريع الإسلامي. والعدل صفة إلهية قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} (النساء:40)، وقال: { إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا} (يونس:44).

ولأهمية العدل ورفعة مكانته جعل الله إقامة العدل والحكم بين الناس بالعدل من مهام الأنبياء بعد دعوتهم إلى توحيد الله وعبادته، قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ  وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ  إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحديد:25)

وعن أبي أمامة الباهلي  “رضي الله عنه”  قال: سمعت رسول الله  ” صلى الله عليه وسلم”  يقول: «إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث» (الترمذي).

وعندما يسود العدل في المجتمعات ينتشر الخير والأمن والطمأنينة في النفوس، فيتفرغ الناس للعمل البناء وبذل الجهود لرفعة ورقي أوطانهم وأمتهم، كل فيما يسره الله له، وهو في حال جده واجتهاده يعلم أنه لن يظلم وأن عمله لن ينسب إلى غيره، وثمرته لن يجنيها سواه، فيزدهر الإبداع والابتكار، ويشتد التنافس الشريف بين أبناء الأمة، لتقديم أفضل ما عندهم، لأنهم يعرفون أنه لن يظلم أحد ولو اعتدى على حقه أي من أفراد المجتمع مهما بلغ من قوة أو سلطان فإن سلطة العدل أقوى وستقتص له ممن ظلموه وتعيد إليه حقوقه.

ثالثا – التقوى:

التقوى من الأخلاق والفضائل التي حض عليها الإسلام، وقد ورد ذكرها في القرآن في مواضع كثيرة، وما شرع الصيام إلا من أجل أن يكتسب المسلم فضيلة التقوى، قال تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة:183). والتقوى خلق فردي يجعل الإنسان دوما مراقبا لربه وفي خشية له، فيكون ضميره حيا؛ فيتقن عمله ولا يسمح بأي تجاوزات فيه، وهذا ينعكس خيره على المجتمع الذي يعيش فيه، فيكون سببا لرقي المجتمع وتقدمه وتنزل الخير والبركة، فتنزل السماء قطرها وتخرج الأرض نباتها و كنوزها قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } (الأعراف:96).

رابعا – الاستقرار والأمن الاجتماعي:

هما نتيجة مباشرة للعدل بين أفراد وجماعات المجتمع، فتختفي مشاعر الحقد الطبقي والصراع بين الطبقات، كما تختفي النعرات العرقية والطائفية والمذهبية، لأن الجميع تحت مظلة القانون لهم حقوق تلتزم الدولة بإعطائها لهم، وعليهم واجبات يجب أن يؤدوها، فيستقر المجتمع ويأمن من ثورات وفتن تطيح بأمنه واستقراره، وتنطلق الطاقات للبناء والعمران.

وهذا ما حققه النبي  ” صلى الله عليه وسلم”  في المدينة بعد الهجرة، فقد عمل على تأمين الجبهة الداخلية للمجتمع المدني ضد حدوث أي فتن أو اضطرابات قد تعرقل من مسيرة بناء الدولة الإسلامية الناشئة، حيث كان يعيش بالمدينة، بجوار المسلمين، كفار مازالوا على وثنيتهم، ويهود ومنافقون (وهم الفئة الأخطر)، فكتب النبي  ” صلى الله عليه وسلم”  كتابا بين المهاجرين والأنصار، وادع فيه يهود وعاهدهم، وأقرهم على دينهم وأموالهم، وشرط لهم واشترط عليهم (2).

وبعد فتح مكة أيضا عمل النبي  ” صلى الله عليه وسلم”  على تأمين الجبهة الداخلية للمجتمع المكي وتقويتها، وسد الذرائع التي قد يرتكن إليها البعض لإثارة القلاقل والفتن وإحداث الاضطرابات، فكان العفو العام الشامل عن كفار مكة رغم ما اقترفوه من جرائم في حق النبي  ” صلى الله عليه وسلم”  وصحابته الكرام رضوان الله عليهم، ليطوي بذلك صفحة يجب أن تمحى آثارها من الصدور بكل ما فيها من ضغائن وأحقاد وثارات، فتصفو النفوس وتتشابك الأيدي من أجل نشر الإسلام في عموم الجزيرة العربية وخارجها، ولتكتمل لحمة المجتمع بكل مكوناته حتى من بقي منهم على كفره، من أجل النهوض بالمجتمع ورفعته تحت راية الشريعة الغراء (3).

خامسا – تشجيع المبادرات الفردية:

المبادرات الفردية من العوامل المهمة في تقدم المجتمعات وتطورها، وهي تعبر عن وعي صاحبها وتفاعله مع قضايا مجتمعه ومشكلاته، فيسارع إلى فعل شيء ما بهدف التغيير، هذا الشيء قد يكون فكرة أو عملا أو أي شيء آخر مفيد، فقد تكون المبادرة فكرة أو اختراعا أو مشروعا يساهم في تقدم المجتمع أو حلولا لمشكلات تعترض طريق تقدمه.

وقد عمل الإسلام على تنمية روح المبادرة لدى المسلمين فحثهم على الأخذ بزمامها والمسارعة إلى أبواب الخير، فجاء في القرآن الكريم قوله تعالى:{فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} (البقرة:148)، {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } (آل عمران:133)، {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ } (المؤمنون:61).

وفي السنة المطهرة: عن أبي هريرة أن رسول الله  ” صلى الله عليه وسلم”  قال: «بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمنا ويمسى كافرا ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا يبيع دينه بعرض من الدنيا» (مسلم).

وقد حوت السيرة النبوية الكثير من مواقف المبادرات الفردية التي قام بها الصحابة رضوان الله عليهم وكان لها الأثر العظيم في قيام وتقدم دولة المسلمين الأولى على عهد النبي  ” صلى الله عليه وسلم” ، نذكر منها مبادرتي عثمان بن عفان  “رضي الله عنه”  في تجهيز جيش العسرة الذاهب لقتال الروم في غزوة تبوك بالكامل، في وقت كان يعاني فيه المسلمون من أزمة اقتصادية طاحنة وشرائه لبئر رومة لمواجهة استغلال اليهودي لحاجة المسلمين للماء ولكسر احتكاره لهذه البئر.

ومنهج الإسلام في تفعيل المبادرات الفردية هو استيعاب كل الجهود وتشجيعها واستثمارها بما يخدم الأمة، وهذا ما حدث مع عبدالله بن مسعود  “رضي الله عنه” ، الذي أخذ زمام المبادرة لقراءة القرآن في صحن الكعبة، رغم أنه كان، من وجهة نظر الصحابة الذين اقترحوا هذا الأمر، أبعد ما يكون؛ نظرا لضعفه الجسماني والعشائري، فأشفقوا عليه من بطش الكفار به المتحقق لا محالة، ولكنه أبى إلا أن يسمع الكفار ما يكرهون، وقد روت لنا كتب السير هذا الموقف: ذات يوم اجتمع أصحاب النبي  ” صلى الله عليه وسلم”  فقالوا: والله ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر لها به قط، فمن رجل يسمعهموه؟ فقام عبدالله، وقال: أنا. فقالوا له: إنا نخشاهم عليك، إنما نريد رجلا له عشيرة يمنعونه من القوم إن أرادوه. قال: دعوني، فإن الله سيمنعني. ثم ذهب إلى الكعبة، وكان في وقت الضحى، فجلس ورفع صوته بالقرآن، وقرأ مسترسلا: «بسم الله الرحمن الرحيم. { الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) } (الرحمن:1-2)».

فنظر إليه أهل مكة في تعجب ودهشة، فمن يجرؤ على أن يفعل ذلك في ناديهم؟ وأمام أعينهم؟! فقالوا في دهشة: ماذا يقول ابن أم عبد؟!

ثم أنصتوا جيدا إلى قوله، وقالوا في غضب: إنه ليتلو بعض ما جاء به محمد، ثم قاموا إليه، وضربوه ضربا شديدا، وهو يستمر في قراءته حتى أجهده الضرب، وبلغ منه الأذى مبلغا عظيما، فكف عن القراءة، فتركه أهل مكة وهم لا يشكون في موته، فقام إليه أصحابه، وقد أثر الضرب في وجهه وجسده، فقالوا له: هذا الذي خشينا عليك. فقال: ما كان أعداء الله أهون علي منهم الآن، ولئن شئتم لأغادينهم بمثلها غدا (أي أفعل ذلك مرة أخرى)، قالوا: لا، لقد أسمعتهم ما يكرهون (4).

وعلى الرغم مما للمبادرات الفردية من فضل في الدنيا والآخرة ورسوخها في الإسلام، فإنها مازالت في عالمنا الإسلامي متخلفة عن مثيلاتها في المجتمعات الغربية، نظرا لعدم انتشار هذه الثقافة بين أفراد الأمة، ولكثرة العراقيل والقوانين المكبلة للعمل الفردي، والتي تؤدي في نهاية الأمر إلى وأده في مهده، أو في أحسن حالاته خروجه مشوها ضعيفا بلا أثر أو نفع حقيقي.

والواجب وضع أطر تنظيمية تساعد على استيعاب المبادرات الفردية، وإتاحة الفرصة لأبناء المجتمع لخدمة قضاياه وحل مشكلاته والنهوض به.

سادسا – الاستفادة من خبرات الآخرين وتجاربهم:

شجع الإسلام المسلمين على الاستفادة من خبرات وتجارب الأمم الأخرى من غير المسلمين، فالإسلام دين منفتح على الآخر ومتواصل معه، في حدود الضوابط الشرعية، فقد تسبقنا الأمم الأخرى في الكثير من المجالات والعلوم التي يحتاج إليها المسلمون وتكون من عوامل تقدم المجتمعات المسلمة و لا غنى لها عنها، فلا حرج حينها في تعلمها والأخذ بها والاستعانة بها، لاسيما أن الحاجة ملحة لها الآن في ظل ضعف وتأخر الأمة في الكثير من المجالات.

وقد وضع لنا النبي  ” صلى الله عليه وسلم”  منهجا بين فيه مشروعية الاستفادة من تجارب وخبرات الآخرين فيما يعود بالنفع على المسلمين، ولعل المثل الأبرز في ذلك هو أخذ النبي  ” صلى الله عليه وسلم”  برأي سلمان الفارسي  “رضي الله عنه”  في حفر خندق حول المدينة لتحصينها ضد هجمات الكفار الذين تجمعوا لحصار المدينة المنورة ومهاجمتها، والخندق فكرة فارسية لم يعهدها المسلمون من قبل، نقلها إليهم سلمان الفارسي  “رضي الله عنه” ، وكانت السبب الأول، بعد تأييد الله لرسوله وعباده المؤمنين، في تحقيق النصر على الأحزاب وردهم خائبين مهزومين بعد فشلهم في عبور الخندق ومهاجمة المدينة المنورة.

وتحوي السيرة النبوية المطهرة الكثير من المواقف التي أيد فيها النبي  ” صلى الله عليه وسلم”  الاستفادة من خبرات وتجارب الأمم الأخرى (5).

سابعا – التخصص:

التخصص من سمات الأمم المتقدمة، والإسلام دين العلم والتنظيم والتخطيط، ولا يقبل الجهل والظن وسوء التقدير، ومن ثم فهو يدعو إلى التعمق في المعرفة، وهذا لا يمكن أن يقوم به فرد في كل التخصصات وميادين الحياة، ولذلك لابد من التخصص.

وقد نصت مصادر الإسلام على أسس ودوافع التخصصات، حيث يحتوي القرآن والسنة على أصول «آيات الآفاق»، وهي ميدان التخصصات العلمية، وأصول «آيات الأنفس» وهي ميدان التخصصات الإنسانية والاجتماعية، عن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله  ” صلى الله عليه وسلم”  قام ليلة فتوضأ، ثم صلى، فبكى حتى بل لحيته، ثم سجد فبكى حتى بل الأرض، ثم اضطجع على جنبه، حتى إذا أتى بلال يؤذنه بصلاة الصبح، قالت: فقال يا رسول الله، ما يبكيك وقد غفر الله ما تقدم من ذنبك ومـا تأخر؟ قال: «ويحك يا بلال، وما يمنعـني ما أبكي وقد أنزل الله علي في هذه الليلة {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ} (آل عمران:190)، ثم قال: «ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها» (ابن حبان وصححه الألباني).

وفرض الإسـلام التخصص في سد ثغرة من ثغور هذا الدين العلميـة أو السياسية أو الثقافية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو العسكرية، قال تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً  فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } (التوبة:122).

وقال: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ  وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } (آل عمران:104)، ومن خلال هذه الآيات وأمثالها ذهب العلماء إلى أن: كل تخصص من التخصصات العلمية، ومن ثم العملية، فرض كفاية، إذا قام البعض به بحيث يسدون حاجة الأمة فيه أجروا، وإن لم يقوموا به أثمت الأمة كلها حتى تفرز من بينها مجموعة تلبي حاجتها في ذلك التخصص، ويستوي في ذلك طلب العلم الشرعي، وتعليم الناس، والدعوة، والجهاد العسكري، وهي المشار إليها صراحة في الآيتين السابقتين، وكذلك الطب والهندسة والفيزياء والكيمياء والفلك وعلوم النفس والاجتماع والتاريخ والجغرافيا والآداب والفنون والحرف المختلفة.

هذه الأعمال التي تقوم بمخ العبودية، أي عمارة الحياة، هي المشار إليها جميعا تحت عنوان: وعملوا الصالحات، والذي اقترن ذكره بالإيمان في القرآن بصيغ متعددة في أكثر من ثمانين موضعا (6).

وهذه الأسباب وغيرها تؤكد أنه لا تقدم للأمة إلا إذا التزمت بأمر دينها وعقيدتها كمنهج حياة في كل شأنها، فكل تقدم من دون عقيدة فهو تخلف عن روح الدين وحقيقته.

الهوامش

1- محمد بن صالح العثيمين: القول المفيد على كتاب التوحيد (دار ابن الجوزي الإسكندرية)، ص8.

2- يرجع للنص الكامل للوثيقة في صحيحي البخاري ومسلم.

3- غزوة فتح مكة على تفاصيلها يمكن الرجوع إليها في كتب السيرة مثل سيرة ابن هشام، الرحيق المختوم أو غيرهما.

4- ابن هشام: السيرة النبوية، (مؤسسة علوم القرآن، جدة) الجزء الأول، ص316.

5- للاستزادة حول هذا الموضوع يمكن الرجوع إلى بحث بعنوان «الاستفادة من مخترعات وتجارب غير المسلمين» منشور على

Leave a Comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Scroll to Top